ما حجم الفراغ في قادم أيامنا؟
ما حجم الفراغ في قادم أيامنا؟!
وهل نقيسه بالمسافات بين الأرواح، أم بعدد الكلمات التي قيلت ولم تُفهم؟
لقد تضاءلت المفاهيم حتى أصبحت الكلمات تُستهلك كما تُستهلك الإعلانات، بلا معنى، بلا عمق.
القيم التي كانت تُنقش في السلوك، أضحت تُدوَّن في منشورات بلا ضمير، وتُنسى بمجرد تمرير الإصبع نحو الأعلى.
ثمة ضجيج يشبه الامتلاء، لكنه في حقيقته صوت الفراغ حين يتقن التنكّر.
كلمات كثيرة تُقال، صور تتوالد بلا توقف، آراء جاهزة كأنها صيغٌ محفوظة، لا تحتمل سؤالًا، ولا تقبل مراجعة.
تُقدَّم السطحية على أنها وضوح، ويُعاد تدوير الانطباعات حتى تبدو وكأنها حقائق.
الجهل ينمو تحت السطح، صامتًا، واثقًا من أن لا أحد سيلتفت.
يُفرّ من التأمل كما يُفرّ من الصمت، وكأن لحظة الصمت تُعرّي من الوهم وتفضح الخواء. أين ذهب المعنى حين استُبدلت الأسئلة الكبرى بأجوبة جاهزة؟ لماذا يُقبل أن تكون “الترندات” دليلًا بدل أن تكون قيم العقل والضمير هي البوصلة؟ تُصفَّق الآراء دون فَهم، وتُردّد القناعات دون محاكمة، ويُستهلك المحتوى لا ليُفهم، بل ليملأ الوقت الفارغ. الفراغ ليس ما لا يُملأ، بل ما يُملأ بلا وعي. وأسوأ الفراغات، ذاك الذي يتسلّل إلى العقل على هيئة يقين هشّ، أو قناعة لم تُختبر.
هل حقًا نملك مستقبلًا ونحن نفرّ من التفكير النقدي، من الشك البنّاء؟
هل للزيف أن يُنبت وعيًا؟
هل يمكن أن يزدهر العقل في تربةٍ لم تُسقَ بأسئلةٍ حقيقية؟
وأسئلة كثيرة أخرى تبدأ بـ “هل”… ولا تجد من يجرؤ على أن يسمعها حتى النهاية.
الفراغ في قادم أيامنا ليس فقط فراغًا في الجدول، بل فراغٌ في المعنى، في الانتماء، في الصدق مع الذات.
الفراغ هو أن تُحيا الحياة بلا غاية، أن يُصفّق بلا فَهم، أن يُدافع بلا حُجّة، أن يُكرَّر بلا وعي.
ما حجم الفراغ في قادم أيامنا؟
ولعل السؤال لا يبحث عن إجابة، بل يفضح هشاشة الصمت الذي يُراد له أن يكون جوابًا.
فأسوأ ما في هذا الفراغ، أن يُؤخذ كأنه لا شيء، بينما هو كلّ شيء ينخر من الداخل. وأسوأ الفراغات، ذاك الذي يتسلّل إلى العقل على هيئة يقين هشّ، أو قناعة لم تُختبر…
