حين يصمت العقل ويتكلم الجسد: كيف تعيش الصدمة النفسية داخلنا دون أن نعلم؟

شارك هذه المنشور

حين يصمت العقل ويتكلم الجسد: كيف تعيش الصدمة النفسية داخلنا دون أن نعلم؟

السبت 17/5/2025
الصدمة النفسية ليست مجرد ذكرى مؤلمة. إنها تجربة كاملة تُخزن في أعماق الجهاز العصبي، وتؤثر على الجسم، والسلوك، والقرارات، وحتى طريقة تفاعلنا مع من حولنا.
 
الصدمة النفسية: آثارها تتجاوز العقل إلى الجسد
تُعرف الصدمة بأنها استجابة نفسية وجسدية لحدث يفوق قدرة الفرد على التحمل. وهي لا تُخزن فقط كذكرى عقلية، بل تُدمج في الجهاز العصبي كاستجابة بقاء. وهذا ما يفسر بقاء البعض في حالة “تأهب دائم” حتى بعد انتهاء الحدث المؤلم بفترة طويلة.
الدماغ، بذكائه الدفاعي، يُعيد برمجة نفسه أثناء وبعد الصدمة بطريقة تحافظ على الحياة، لكنه قد يبالغ أحيانًا. فيتحول هذا التأهب الطبيعي إلى نمط دائم من القلق، اليقظة المفرطة، أو حتى الانفصال عن الذات.
 
كيف تعيد الصدمة تشكيل الدماغ والجسم؟
الدراسات الحديثة في علم الأعصاب تؤكد أن الصدمة النفسية تُحدث تغييرات هيكلية ووظيفية في مناطق معينة من الدماغ:
•اللوزة الدماغية (Amygdala): 
المسؤولة عن الاستجابة للخطر، تصبح مفرطة النشاط، ما يجعل الشخص حساسًا لأي مؤشرات تهديد، حتى لو لم تكن حقيقية.
•القشرة الجبهية (Prefrontal Cortex):
وهي مركز التنظيم والتفكير المنطقي، تضعف قدرتها على تهدئة ردود الفعل العاطفية، مما يزيد من الانفعالات وسوء التنظيم الذاتي.
•الحُصين (Hippocampus):
المسؤول عن معالجة الذكريات، يصبح أقل كفاءة، ما يؤدي إلى تشوش في تسلسل الأحداث أو عودة الصور الذهنية المؤلمة بطريقة مفاجئة ومزعجة.
 
الطفولة والصدمات: حين تُزرع الجروح في عمر مبكر
 
الصدمات في الطفولة تُعد من أخطر أنواع التجارب النفسية، لأنها تترك آثارًا عميقة في الدماغ الذي لا يزال في طور النمو. فالطفل الذي يتعرض لسوء معاملة، إهمال، أو بيئة غير آمنة، 
غالبًا ما يواجه لاحقًا مشكلات في:
•القدرة على بناء علاقات آمنة.
•السيطرة على الانفعالات.
•تقدير الذات.
•اتخاذ قرارات متزنة.
 
هذا النوع من الصدمات قد لا يظهر مباشرة، لكنه يُعيد تشكيل الشخصية بالكامل في سن الرشد.
 
كيف تظهر الصدمة في حياتنا اليومية؟
أعراض الصدمة تختلف من شخص لآخر، لكنها غالبًا ما تشمل:
•الفرط في الاستثارة: الشعور بالتوتر، صعوبة النوم، الانفجار الغضبي، أو الحساسية المفرطة للمحفزات.
•العودة القسرية للذكريات: مشاهد مؤلمة تعود في شكل كوابيس، أو ومضات ذهنية مزعجة.
•الانفصال العقلي والعاطفي: الشعور بالغربة عن الذات أو الواقع، وكأن الشخص يشاهد حياته من الخارج.
• الآلام الجسدية المزمنة: كآلام العضلات، الصداع، واضطرابات الجهاز الهضمي، دون تفسير عضوي واضح.
 
طرق التعافي: كيف نبدأ رحلة الشفاء؟
رغم أن الصدمة قد تعيش داخلنا سنوات، فإن الشفاء منها ليس مستحيلًا. يتطلب الأمر أساليب متعددة تتجاوز الكلام لتشمل الجسد والمحيط الاجتماعي:
1.العلاج النفسي الحديث:
كالعلاج السلوكي المعرفي (CBT) أو تقنيات إعادة معالجة الذكريات مثل EMDR، التي تساعد في تعديل أنماط التفكير السلبية المرتبطة بالحدث الصادم.
2.العلاج الجسدي:
يشمل تقنيات مثل اليوغا، التنفس العميق، والتأمل، والتي تهدف إلى إعادة الاتصال بالجسم وتفريغ التوتر المتراكم في الجهاز العصبي.
3.الدعم الاجتماعي:
الشعور بالانتماء إلى شبكة داعمة من الأصدقاء أو العائلة يُعد من أقوى العوامل التي تُسهم في إعادة تنظيم الاستجابات العصبية وتعزيز الشعور بالأمان.
4.تنظيم الحياة اليومية:
من خلال الروتين الصحي، والنوم الكافي، والتغذية الجيدة، يمكن للجسم أن يبدأ في استعادة توازنه.
 
الصدمة قد تُدفن في الجسد، لكنها لا تموت بالصمت
من المهم أن نعرف أن أجسادنا تحفظ التجارب الصادمة حتى لو حاولنا تجاهلها. الأعراض التي نواجهها ليست ضعفًا، بل إشارات على وجود جرح لم يُعالج بعد.
الوعي بالصدمة، والاعتراف بها، هو الخطوة الأولى نحو التعافي. ومع تعدد وسائل العلاج وتطوّر فهمنا للعلاقة بين النفس والجسد، بات الشفاء ممكنًا، بل ومستحقًا لكل من مرّ بتجربة مؤلمة.
 

 

المزيد من المقالات

جميع الحقوق محفوظة . صمم بواسطة موركيز