في عالم تتدفق فيه الخيارات، حيث لكل قرار ألف طريق، وكل طريق يحمل ألف احتمال، يتلاشى هدوء البوصلة الداخلية. لم يعد الإنسان متيقنًا مما يريد، بل أصبح أسيرًا لتوهان دائم بين ‘ماذا لو؟’ و’هل هذا الخيار الأنسب؟’

الوفرة تبدو نعمة، لكنها تتحول إلى نقمة حين يصبح الاختيار عبئًا، والحرية قيودًا مخفية. كلما زاد عدد الأبواب، ضاع الإحساس بالاتجاه، وكلما ارتفع سقف الإمكانيات، كبرت المخاوف من الخطأ. نريد أن نعيش كل احتمالاتنا، لكننا نفقد القدرة على العيش في اللحظة التي اخترناها. كلما كثرت الخيارات، ضاع السلام الداخلي، وكلما تعددت الإمكانيات، زاد القلق من الفرص الضائعة، ومن الحياة التي لم نختَر أن نحياها.

نقمة الوفرة ليست في الخارج، بل في الداخل. هي قلق النفس من اللامحدود، وارتباك العقل أمام احتمالات لا تنتهي، في التشتت الذي يسرق حضورنا، وفي الرغبة التي لا تهدأ، وفي المقارنة التي تقتل الرضا. نحن بحاجة إلى الاختيار، إلى الانحناء عند لحظة واحدة، لكننا نتوه في بحر من الاحتمالات، نبحث عن الكمال في كل خيار، ونخشى أن يكون الخيار الآخر أفضل.

في هذا العالم، أصبح “القليل” فخامة، و”التركيز” تمرينًا على الصبر. وكما أن الندرة تُعلمنا التمييز فيما هو ضروري، فإن الوفرة تعلمنا قيمة الاختيار، لكنها تختبر قدرتنا على الرضا، وتواجهنا بمفارقة رهيبة: كلما زاد ما نملك من خيارات، نقص ما نمتلكه من هدوء داخلي .

ربما الفن الحقيقي هو اختيار طريق واحد، والالتصاق به بلا ندم، والامتنان لكل خطوة، حتى لو بدا الطريق ضيقًا أمام بحر من الاحتمالات. فالحكمة ليست في كثرة الخيارات، بل في قدرتنا على أن نحيا خيارنا كأنه كل ما نملك من حياة، بلا خوف، بلا ارتباك، بلا وجع الانتظار.

“نقمة الوفرة ليست فيما نملكه، بل في الطريقة التي نتعامل بها مع ما نملك، وفي كيفية عيشنا خياراتنا دون أن تتحول الحرية إلى قيد، والاختيار إلى عبء ثقيل على القلب.